في مركز بيروت للفن، كثيراً ما نفكّر بالمهارات، وغالباً ما نتحدّث عنها في حواراتنا مع الفنّانين والصنّاع والمصمّمين، وكذلك مع مختلف التقنيّين الذين نعمل معهم عن كثب أثناء المعارض وفي الفترات الفاصلة بينها. يتيح لنا التفكير بالمهارات، والرابط الوثيق بينها وبين العمّال من كلّ الفئات، أن ننظر إلى الفنّ بطريقةٍ تتشابك بعمقٍ مع العديد من الحقائق الاجتماعيّة والسياسيّة والتاريخيّة. يسمح لنا الفنّ كذلك بتعقيد الثنائيّات السطحيّة مثل: التقليد والابتكار، الماضي والحاضر، الحرفة والفن، العمالة الماهرة وغير الماهرة.
يشير مفهوم “تخفيض مهارات الوظيفة” في علم الاجتماع إلى عمليّةٍ ظهرت مع بداية الحداثة، أي مع توجّه القوى العاملة من طرق نقل المعرفة المهنيّة، كما في صورة المُعلّم والمتدرّبين، أو في أشكال التنظيم الجماعيّة مثل النقابات والاتّحادات العمّاليّة، إلى أنظمةٍ ذات طابعٍ فرديٍ كالعمل مقابل أجر واقتصاد “العربة”، أيّ الاقتصاد القائم على العمل الحر والمؤقّت أو المنصّات الإلكترونيّة. يشكّل النظام الرأسمالي أساس هذه الحركة، وتتمثّل أدواتها في تقسيم العمل والأتمتة والمكننة.
غالباً ما يُزعم أنّ تاريخ تخفيض مهارات الوظيفة في مجال الفن بدأ مع نشوء الفن الجاهز والمفاهيمي، لكنّ تنحية المهارات هنا تتعلّق أيضاً بسلسلةٍ من التغيّرات الاجتماعيّة، مثل مفهوم الفن ودوره في المجتمع ونتائج التحوّل التكنولوجي. يظهر أثر تخفيض مهارات الوظيفة في حشود مساعدي وعاملي وصنّاع ومجهّزي الاستوديوهات وغيرهم، ممّن تعاظمت أهميّتهم في مجال الإنتاج الفنّي، إلّا أنّ العالم الفنّي ما يزال يتعامل معهم باعتبارهم عمالةً خفيّةً ومؤقّتة.
تتفاوت شِدّة ردود الفعل على مفهوم تخفيض مهارات الوظيفة حول العالم. في لبنان، سرّعت الأزمة الماليّة من وتيرة النقاشات عن كابوس الدولرة غير المبرّر الذي نغرق فيه، حيث يعتمد الناتج المحلي الإجمالي على الخدمات، على حساب مجالات الزراعة والحِرف والصناعة. بات واضحاً للكثيرين أنّ صمودنا، ولو لفترةٍ وجيزةٍ، يعتمد على قدرتنا على إعادة الافتتان بما نعرفه ونستعمله ونصنعه ونأكله، وكذلك على إعادة التفكير بالروابط الاجتماعيّة الّتي تقود هذه العمليّات.
يشكّل مشروع على رأس السطح، وهو حديقةٌ مجتمعيّةٌ على سطح مركز بيروت للفن، أحد الطرق المتواضعة التي نحاول فيها التفكير في الوضع الاقتصادي والأزمات الاجتماعيّة الحاليّة، عبر تجميع المشاريع المشتركة التي تعتمد على التعاون والاكتفاء الذاتي. لا يهدف اقتراحنا لهذه المشاريع إلى تأمين الحلول لأزمةٍ عميقةٍ يتخطّى حجمها أيّ مبادرةٍ فرديّة، ولا نعتقد أنّ الحلول تكمن في العودة إلى أيّ وضعٍ سابق، إنّما نؤمن أنّ هذه المشاريع تقدّم فرصاً للتجمّع والتفكير خلال العمل ورفع التوعية حول الآليّات الهادفة إلى التخلّص من المزارعين والحِرفيّين والعمّال على حدٍّ سواء.
تعتمد سلسلة الورش التي نقدّمها على مشاركة المهارات وتعريف المشاركين على أصول الحِرف وحفظ الأغذية والتقطير. سيتطوّر هذا البرنامج ويتوسّع لتغطية مجموعةٍ من الحاجات، تتنوّع بين ضرورية وترفيهية، في محاولةٍ منّا لتوسيع نطاق مرتادي المركز ومجتمعه من جهة، وتوسيع المفاهيم الّتي تُشكّل مهن الفن والخطاب حوله من جهةٍ أخرى.